نفتح هنا ملف المجلس الأعلي للثقافة، ليس بحثا في ملفات قديمة وأدوارا لم يؤدها المجلس، ولكن نحاول هنا أن نفهم كيف نستفيد فعلا من هذا الكيان الكبير، الذي أنشأ ليلعب دورا رئيسيا في حياة المثقفين. الحديث عن المجلس وأدواره يقودنا بالضرورة للحديث عن فكرة الاستقلال التي هي الضمانة الحقيقة لتحقيق هذه الأهداف.
يكتب د. عزالدين شكري فشير أحدث من تولوا منصب الأمين العام، عن تصوراته الخاصة لدور المجلس، والسيناريوهات المقترحة لتطويره في الفترة القادمة. أيضا نحاور الفنان عادل السيوي صاحب المقترح الأبرز لإعادة هيكلة المجلس، والذي يعتمد اعتمادا أساسيا علي استقلاله. القضية واسعة، والمشاركة مفتوحة للجميع..
دارت علي مدي الشهرين الماضيين مناقشات بالمجلس الأعلي للثقافة حول مستقبله. اشترك فيها شخصيات من أطياف الجماعة الثقافية المتباينة، بعضها في جلسات ثنائية وكثير منها في جلسات مفتوحة. وأود هنا إجمال ما أراه رأي الأغلبية في عدد من القضايا المتصلة بمستقبل المجلس، وتوضيح الأسئلة الباقية التي يتعين علينا كجماعة ثقافية الإجابة عنها كي نبني المجلس الذي نريده للمستقبل.
أول عناصر الإجماع _ مع بعض التصرف من جانبي - هو تصميم الجماعة الثقافية علي تحرير العمل الثقافي ومؤسساته من سيطرة الدولة، ودفن ممارسات الإقصاء والاحتكار واستخدام المؤسسات العامة لمصالح شخصية، وتحصين هذه المؤسسات ضد خطر عودة الاستبداد. وثانيها أن للمجلس أدواراً عدة، من بينها المحفز والحاضن والداعم للعمل الثقافي، والعقل الجمعي الذي يرسم السياسات الثقافية ويبلور الرؤي الموجودة داخل الجماعة الثقافية، والمنبر الذي تعبر من خلاله هذه الجماعة عن صوتها في الشأن العام. وثالث هذه العناصر هو الرغبة في أن يعكس المجلس تباينات الثقافات المصرية بألوانها، من حيث هياكله وطريقة عمله، ومن حيث الأشخاص الذين يقودون العمل فيه وطريقة اختيارهم. واتفقت معظم الآراء علي ضرورة ترشيد ومراجعة لجان المجلس ومهامها، وعلي أفضلية اختيار أعضاء هذه اللجان من خلال ترشيحات تقدمها الجماعات والهيئات والشخصيات الثقافية، وانتخاب أعضاء اللجان لمقرريها ولهيئة المجلس وللأمين العام. وآخر عناصر الإجماع هو ضرورة احتفاظ المجلس بأدوات تمكنه من تنفيذ أدواره، مثل الجوائز والنشر والتمويل، وذلك لتحقيق أولويات السياسات الثقافية التي يبلورها هذا المجلس الجديد.
وفي رأيي، فإن هناك أكثر من نموذج يمكنه تحقيق هذه الأهداف. الأول أن يكون المجلس هو الهيئة العليا للثقافة في البلاد، وأن تلغي وزارة الثقافة. وهذا نموذج قائم وناجح في عدد من الدول، إلا أني أشك في استعداد الدولة المصرية _ بل والمثقفين أنفسهم _ لتبني هذا النموذج، خاصة أننا مقدمون علي نوع جديد من الحكومات يقودها سياسيون منتخبون ذوو رؤي اجتماعية وثقافية يسعون لتطبيقها. ولا أتصور أن تترك الحكومات المنتخبة المسيسة أمراً كالثقافة أو التعليم يخرج عن يدها بالكامل.
النموذج الثاني يظل المجلس فيه جزء من وزارة الثقافة مع دعم استقلاله من خلال سيطرة الجماعة الثقافية علي عملية تشكيل لجانه وهيئاته، بحيث يصبح المجلس جسراً للجماعة الثقافية داخل الوزارة. الأمر الذي يمكن المجلس _ والجماعة الثقافية التي تسيطر عليه - من المساهمة بفاعلية في بلورة الرؤية الثقافية للدولة والسياسات التي تحققها والمشاركة في تنفيذها. وهذا النموذج أقرب للتصميم الأصلي للمجلس القائم قبل أن تعود الدولة في أوائل الثمانينات وتحكم سيطرتها عليه وعلي هيئاته.
النموذج الثالث هو انفصال المجلس عن الوزارة وتحوله لأمر من اثنين: إما أن يصبح برلماناً للمثقفين يراقب عمل الوزارة دون أن يكون له مهام تنفيذية، أو إلي هيئة تخطيطية ترسم الرؤي والسياسات وتنسق مع الوزارة وتتابع عملها في محاولة لتنفيذ هذه الرؤي. وفي رأيي فإن كلا الأمرين شر للمجلس ولمستقبل صنع السياسة الثقافية. فإن اتفقنا علي أن أدوار المجلس تشمل تحفيز ودعم واحتضان العمل الثقافي، فإن تحويله لهيئة شبه برلمانية ينحصر دورها في المراقبة يصبح أمراً بلا معني، وعلي كل حال ليس هناك مايمنع المثقفين من إنشاء اتحاد أو جمعية تقوم بهذا الدور. بمعني آخر، إن قيام المجلس بأدواره المنشودة يتطلب بقاء _ بل وتطوير _ قدرته علي التدخل الفعلي في عملية الانتاج الثقافي وتوجيهها، أي الحفاظ علي طابعه التنفيذي. من ناحية أخري، فإن تحويل المجلس لهيئة منفصلة عن وزارة الثقافة وموازية لها أمر محكوم عليه بالفشل، فالتنسيق بين هيئتين تتنازعان الاختصاص وتعكسان مصالح سياسية متباينة _ وهو الحال هنا - مستحيل عملياً مهما سنت القوانين وقطعت العهود.
ومن ثم، فإن النموذج الذي أري أنه يحقق الأهداف التي نرجوها للمجلس هو أن يعاد تشكيله بحيث يتم اختيار كوادره وقياداته من جانب الجماعة الثقافية، وأن يتم ترشيد ومراجعة لجانه وهيئاته وطريقة عمله، مع بقائه جزءاً من وزارة الثقافة يساهم في رسم سياساتها وتطبيقها. أي أن نجعله بمثابة حصان طروادة دائم للجماعة الثقافية داخل وزارة الثقافة.
إنني أدرك حجم الرغبة في فصل المجلس عن الوزارة بالكامل، لكني أيضاً أدرك أن هذه الرغبة تذكيها جراح الماضي ولا تأخذ في اعتبارها التغيير الضخم الجاري في مصر. ثمة ثورة قامت في يناير، والدولة التي نحاول بناءها ليست نفس الدولة التي انقضت. نحن لا نبني مجلساً ثقافياً لدولة مطلقة السلطات غاشمة، بل لدولة بها تداول للسلطة وانتخابات ورقابة شعبية. وإن كان هناك عبرة نستخلصها من يناير 2011 فهي أن المجتمع أقوي من الدولة. ولايصح بعد اليوم أن نخاف من هذه الدولة ونحاول أن نبني الحصون ونحتمي خلفها من بطشها، بل علينا أن نقوم ونتقدم ونحتل هذه الدولة ومفاصلها ومؤسساتها ونقودها كي تخدم المجتمع وأهدافه. ليس هناك في هذه البلاد مصريون ومماليك. ولا يجب السماح للدولة أن تنفصل عن المجتمع بعد الآن. وإن كانت الدولة قد "دجنت" المثقفين وأدخلتهم "الحظيرة" الشهيرة، فإن النموذج الذي أراه للمجلس الأعلي للثقافة يدجن الدولة، ويدخلها حظيرة الثقافة.
يكتب د. عزالدين شكري فشير أحدث من تولوا منصب الأمين العام، عن تصوراته الخاصة لدور المجلس، والسيناريوهات المقترحة لتطويره في الفترة القادمة. أيضا نحاور الفنان عادل السيوي صاحب المقترح الأبرز لإعادة هيكلة المجلس، والذي يعتمد اعتمادا أساسيا علي استقلاله. القضية واسعة، والمشاركة مفتوحة للجميع..
دارت علي مدي الشهرين الماضيين مناقشات بالمجلس الأعلي للثقافة حول مستقبله. اشترك فيها شخصيات من أطياف الجماعة الثقافية المتباينة، بعضها في جلسات ثنائية وكثير منها في جلسات مفتوحة. وأود هنا إجمال ما أراه رأي الأغلبية في عدد من القضايا المتصلة بمستقبل المجلس، وتوضيح الأسئلة الباقية التي يتعين علينا كجماعة ثقافية الإجابة عنها كي نبني المجلس الذي نريده للمستقبل.
أول عناصر الإجماع _ مع بعض التصرف من جانبي - هو تصميم الجماعة الثقافية علي تحرير العمل الثقافي ومؤسساته من سيطرة الدولة، ودفن ممارسات الإقصاء والاحتكار واستخدام المؤسسات العامة لمصالح شخصية، وتحصين هذه المؤسسات ضد خطر عودة الاستبداد. وثانيها أن للمجلس أدواراً عدة، من بينها المحفز والحاضن والداعم للعمل الثقافي، والعقل الجمعي الذي يرسم السياسات الثقافية ويبلور الرؤي الموجودة داخل الجماعة الثقافية، والمنبر الذي تعبر من خلاله هذه الجماعة عن صوتها في الشأن العام. وثالث هذه العناصر هو الرغبة في أن يعكس المجلس تباينات الثقافات المصرية بألوانها، من حيث هياكله وطريقة عمله، ومن حيث الأشخاص الذين يقودون العمل فيه وطريقة اختيارهم. واتفقت معظم الآراء علي ضرورة ترشيد ومراجعة لجان المجلس ومهامها، وعلي أفضلية اختيار أعضاء هذه اللجان من خلال ترشيحات تقدمها الجماعات والهيئات والشخصيات الثقافية، وانتخاب أعضاء اللجان لمقرريها ولهيئة المجلس وللأمين العام. وآخر عناصر الإجماع هو ضرورة احتفاظ المجلس بأدوات تمكنه من تنفيذ أدواره، مثل الجوائز والنشر والتمويل، وذلك لتحقيق أولويات السياسات الثقافية التي يبلورها هذا المجلس الجديد.
وفي رأيي، فإن هناك أكثر من نموذج يمكنه تحقيق هذه الأهداف. الأول أن يكون المجلس هو الهيئة العليا للثقافة في البلاد، وأن تلغي وزارة الثقافة. وهذا نموذج قائم وناجح في عدد من الدول، إلا أني أشك في استعداد الدولة المصرية _ بل والمثقفين أنفسهم _ لتبني هذا النموذج، خاصة أننا مقدمون علي نوع جديد من الحكومات يقودها سياسيون منتخبون ذوو رؤي اجتماعية وثقافية يسعون لتطبيقها. ولا أتصور أن تترك الحكومات المنتخبة المسيسة أمراً كالثقافة أو التعليم يخرج عن يدها بالكامل.
النموذج الثاني يظل المجلس فيه جزء من وزارة الثقافة مع دعم استقلاله من خلال سيطرة الجماعة الثقافية علي عملية تشكيل لجانه وهيئاته، بحيث يصبح المجلس جسراً للجماعة الثقافية داخل الوزارة. الأمر الذي يمكن المجلس _ والجماعة الثقافية التي تسيطر عليه - من المساهمة بفاعلية في بلورة الرؤية الثقافية للدولة والسياسات التي تحققها والمشاركة في تنفيذها. وهذا النموذج أقرب للتصميم الأصلي للمجلس القائم قبل أن تعود الدولة في أوائل الثمانينات وتحكم سيطرتها عليه وعلي هيئاته.
النموذج الثالث هو انفصال المجلس عن الوزارة وتحوله لأمر من اثنين: إما أن يصبح برلماناً للمثقفين يراقب عمل الوزارة دون أن يكون له مهام تنفيذية، أو إلي هيئة تخطيطية ترسم الرؤي والسياسات وتنسق مع الوزارة وتتابع عملها في محاولة لتنفيذ هذه الرؤي. وفي رأيي فإن كلا الأمرين شر للمجلس ولمستقبل صنع السياسة الثقافية. فإن اتفقنا علي أن أدوار المجلس تشمل تحفيز ودعم واحتضان العمل الثقافي، فإن تحويله لهيئة شبه برلمانية ينحصر دورها في المراقبة يصبح أمراً بلا معني، وعلي كل حال ليس هناك مايمنع المثقفين من إنشاء اتحاد أو جمعية تقوم بهذا الدور. بمعني آخر، إن قيام المجلس بأدواره المنشودة يتطلب بقاء _ بل وتطوير _ قدرته علي التدخل الفعلي في عملية الانتاج الثقافي وتوجيهها، أي الحفاظ علي طابعه التنفيذي. من ناحية أخري، فإن تحويل المجلس لهيئة منفصلة عن وزارة الثقافة وموازية لها أمر محكوم عليه بالفشل، فالتنسيق بين هيئتين تتنازعان الاختصاص وتعكسان مصالح سياسية متباينة _ وهو الحال هنا - مستحيل عملياً مهما سنت القوانين وقطعت العهود.
ومن ثم، فإن النموذج الذي أري أنه يحقق الأهداف التي نرجوها للمجلس هو أن يعاد تشكيله بحيث يتم اختيار كوادره وقياداته من جانب الجماعة الثقافية، وأن يتم ترشيد ومراجعة لجانه وهيئاته وطريقة عمله، مع بقائه جزءاً من وزارة الثقافة يساهم في رسم سياساتها وتطبيقها. أي أن نجعله بمثابة حصان طروادة دائم للجماعة الثقافية داخل وزارة الثقافة.
إنني أدرك حجم الرغبة في فصل المجلس عن الوزارة بالكامل، لكني أيضاً أدرك أن هذه الرغبة تذكيها جراح الماضي ولا تأخذ في اعتبارها التغيير الضخم الجاري في مصر. ثمة ثورة قامت في يناير، والدولة التي نحاول بناءها ليست نفس الدولة التي انقضت. نحن لا نبني مجلساً ثقافياً لدولة مطلقة السلطات غاشمة، بل لدولة بها تداول للسلطة وانتخابات ورقابة شعبية. وإن كان هناك عبرة نستخلصها من يناير 2011 فهي أن المجتمع أقوي من الدولة. ولايصح بعد اليوم أن نخاف من هذه الدولة ونحاول أن نبني الحصون ونحتمي خلفها من بطشها، بل علينا أن نقوم ونتقدم ونحتل هذه الدولة ومفاصلها ومؤسساتها ونقودها كي تخدم المجتمع وأهدافه. ليس هناك في هذه البلاد مصريون ومماليك. ولا يجب السماح للدولة أن تنفصل عن المجتمع بعد الآن. وإن كانت الدولة قد "دجنت" المثقفين وأدخلتهم "الحظيرة" الشهيرة، فإن النموذج الذي أراه للمجلس الأعلي للثقافة يدجن الدولة، ويدخلها حظيرة الثقافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق