الخميس، 16 ديسمبر 2010

كلمة الروائي إبراهيم الكوني الفائز بجائزة ملتقى الرواية الخامس



شهداء على قيد الحياة[1]

"قدر الرجال في هذه الدنيا ألاّ يذوقوا طعمًا للسعادة ما لم تكن مجبولة بنصيبٍ من كآبة".
(وصية الحكيم "آنهي" المستعارة من أمّ الكتب "برت أم هرو" المسمّى اصطلاحًا لا ترجمةً بـ"كتاب الموتى").

         هل نبدع، يا ترى، لكي نستمتع، أم أننا نبدع لكي نتحرّر؟
         أفلا يبدو هذا السؤال في حقيقته الوجودية ترجمة أخرى لوصية "إيمانويل كانت" القائلة بأننا لا نأتي إلى هذه الدنيا لننال السعادة، ولكننا نأتي إلى الدنيا لندفع الدَّيْن؟
         ألا يتجلى مجد اللغة العربية هنا في ترادف كلمة "دَينْ" الدالة على مفهوم "الواجب"، مع كلمة "دِين" الدالة على مفهوم "العبادة"، كما تجلت عبقرية هذه اللغة في المزاوجة المفهومية بين "الأخلاق" من جانب، و"الإبداع" من جانب آخر، ليجتمعا معنى حميمًا واحدًا، في كلمة "أدب"؟
         بلى، أيها الأعزاء؛ فالإبداع من هذا المنطلق لن يكون مخالفة صريحة للوصية الأفلاطونية القائلة بوجوب أن يحيا الإنسان لاهيًا فحسب، ولكنه ينقلب مجازفة خطرة من خلال الوعي بهويته كـ"واجب"، أي دَينْ، المرادفة مع مفهوم "الدّين"؛ الدِّين لا بمفهومه الحرفي، أو الشعائري، ولكن بمفهومه الأخلاقي، أي الرسالي.
         فإذا كان الإبداع خيارًا وجوديًا وليس دنيويًا، فإنه خيار مجبول بروح رسالية. والروح الرسالية لن تكون في هذه الحال غنيمة، بل تنقلب قدرًا مكبلاً بالكآبة. تنقلب قدرًا مكبلاً بتلك الكآبة التي ندفعها ثمنًا للكنز الوحيد الذي يجعل من الموت ميلادًا، ألا وهو: الحرية!
         نحن لا نستطيع أن نعترف بالحرية كحرف أوّل في أبجدية الإبداع ما لم نلق نظرة، ولو خاطفة، على مسيرة التاريخ البشري الذي لم يكن لينقسم منذ التكوين إلى قطبين أساسيين (أحدهما يعتنق الترحال، والثاني يركن إلى المكان)، ما لم تكن الحرية في هذا الجدل الموجع سرّ أسرار.
فالإنسان، إذا كان من سليقته أن يحيا لاهيًا، فالمنطق يحتم عليه اختيار دمية لهوه؛ لأن من لم يختر دمية لهوه اختارته الأقدار دمية لهوها! وإذا كانت الطبيعة قد هرعت لنجدة إنسان الاستقرار، فوضعت بين يديه دمية لهوه بوصفه حميمها الذي اختار الركون إليها، فإن المنفى لابد أن يصير قدر إنسان الفريق الذي اختار الترحال، لأن عليه أن يدفع ثمن إنكاره للطبيعة الأم، فيجني من الطبيعة إنكارًا بالمقابل.
ولكن لماذا أطلق القديس أوجستين لقب "القبيلة الإلهية" على الفريق الراحل، في حين لقب فريق الاستقرار باسم "القبيلة الدنيوية"؟
         سر اللقب هنا استعير من طبيعة المسلك؛ فالبطولة رهينة الطلب، والسكينة رهينة التسليم؛ فالإنسان الذي ارتضى لعنة الخروج من الفردوس قدرًا، وقبل بهبات الطبيعة لعبة دنياه، لابد أن ينال حطام الدنيا مكافأةً. أما الفريق الآخر الذي كابر وأَبَى أن يعترف بالخطيئة قدرًا فتنكّر للمقام في المكان، فليس لهذا الإنسان إلا الحرية دميةً.
         ولكن ما هي ماهية هذه الحرية؟
         ماهية هذه الحرية هي ممارسة الصلاة؛ الصلاة الحقيقية، لا صلاة الشعيرة، التي حقَ لنا أن نطلق عليها اسمًا بسيطًا ولا يخلو من غموض هو: التأمل!
         ولكن بأي حق صار "التأمل" إنجازًا دينيًا ثوريًا في مقابل المفهوم التقليدي السائد لطقس الصلاة؟ صار "التأمل" زلزالاً زعزع حياة القبيلتين البدئيتين رأسًا على عقب؛ لأنه قدم للمخلوق البشري البرهان على الخلود، كما قدم قبلها للمخلوق البشري البرهان على حضوره في الوجود.
         من هنا صارت الحرية (التي أبدعت هذه المعجزة) الوجه الآخر للحقيقة؛ هذه الحقيقة التي ما لبثت أن أنجبت من صلبها أعجوبة أخرى هي: النبوّة!
         النبوّة التي كانت منذ البدء هبة إنسان الحرية المغترب عن دنيا المكان، المقدّمة إلى إنسان الاستقرار بالمجان!
         وهي نبوة لم تكن لتكتسب الإعجاز لو لم تكن هويّة مستقطعة من روح العالم الذي يقع خارج حدود العالم، والمجبول بأنفاس لا ما يُرى، ولكن بأنفاس ما لايُرى، لأن ما يُرى بالعين الفانية غنيمة من نصيب الفناء، أمّا ما ينال بممارسة التحديق في الخافية فغنيمة الأبود.
         بهذه الفضيلة نالت الهجرة بُعدًا قدسيًا في كل الثقافات، وفي كل معتقدات العالم القديم، لأنها أوجدت بالتأمل أعجوبة "خلود الروح" قبل أن تتبلور على يد أهل الاستقرار لتصير عقيدة إنسان مصر القديمة. وهي المعجزة التي كان لها الفضل في تأليه رسالة الإنسان في الوجود كربّ زائل مقارنةً بهويّة الربوبية كناسوتٍ خالد. وما تفضيل الربوبية لقربان الراعي هابيل على قربان حميم الأرض قابيل إلاّ أليجوريا لإعلاء شأن الحرية التي تمثلها الهجرة في مقابل إدانة المِلكية كنظام لا أخلاقي، عبادة حطام الدنيا، وهو ما يعني أننا لا يجب أن نبتهج كثيرًا بانتصار الربوبية لخيارنا باختيارها لمريد الحرية هابيل، لأن الفوز بمحبة الرب أيضًا رهان خطر. والدليل هو هابيل الذي دفع الحياة ثمنًا لهذا الحبّ. بل الدليل هو حياة كل الرسل الذين إن لم يدفعوا الحياة ثمنًا لهذا الحب، فإنهم دفعوا الآلام ثمنًا لهذا الحب. والدليل، أخيرًا،  هو فرارهم جميعًا من وزر النبوّة لو لم تتدخل سلطة الربّ لتردّهم إلى رسالاتهم. أداء الواجب، إذن، مجبول بالقربان، مثله مثل نقيضه الخطيئة، تمامًا. وتساوى هذين الضدّين في الضريبة المستوجبة هو ما عناه حكيم "كتاب الموتى" عندما نبّه، في وصيته، إلى حضور نصيب من كآبة في كل عمل رجولي.
ولا أحسب وجود عمل رجوليّ (أي بطولي) يمكن أن يفوق وزرًا، أو عذابًا، مثل حضور المبدع في مثوى عزلته الأبدية. فهو إن كان معشوق الطبيعة بوصفها خليفة مشيئة الربّ على الأرض، فإنه طريد ملكوت الربَ أيضًا، لأن الإبداع في حقيقته الأصلية ما هو إلا خطيئة، لأنه انتحالٌ سافر لسلطة الربّ!
فما هي المكافأة الدنيوية التي تستطيع أن تلعب دور الترياق لمريدٍ يحدّق في مجاهل الأبدية، مجبولاً بالعزلة، ولا حضور له في رحاب الدنيا، ولاشأن له ببهتان الدنيا؟ هل تصلح غنيمة الدنيا تميمةً لمداواة علّة سببها الحضور في الدنيا؟ أليست هذه المحنة هي ما عناه "توماس كارلايل" عندما قال إن مكافأة المبدع الوحيدة هي حضوره في الأبدية، لا في نيل هبات الدنيا؟ وإذا آمنّا بالوصية الأخرى القائلة بأن النجاح رهين العمل، أمّا المكافأة على العمل فرهينة الحظ، فهل يأبى طريد الدنيا أن يذهب ليمارس الصلاة في معبد سلطان الحظوظ، بدل أن يرتضي حمل صليب القصاص في محراب ملكوت الربّ؟ هل تجدي العطية في إحياء شهيد؟!
بلى! تستطيع العطيّة أن تحيي الشهيد في حال واحدة: عندما تكون العطيّة اعترافًا بالإحسان؛ لأن التجربة برهنت أن إنكار الإحسان ما هو إلا ميتة ثانية للشهيد، بل الميتة الأسوأ من ميتة الغياب عن الدنيا.
وأحسب أن أولئك الذين سنّوا هذا التقليد النبيل (تقليد إجازة أموات على قيد الحياة) إنمّا حاولوا بث هذا البعد الذي لا يخلو من روح التأبين في مفهوم الجائزة الأدبية.
ولهذا السبب فإن الجوائز، إذا منحت عن استحقاق (أي لشهيد حقيقي وليس شهيدًا مزورًا)، فإنها ترتدّ لتصير تاج إكبار على رأس مَنْ مَنَح رَمْزَ الإكبار، لأننا لا ننال حقيقةً إلا ما نهب. أما إذا مُنحت المكافأة عن غير استحقاق (أي لشهيد مزيّف)، فإنها وسام عارٍ على صدر من مَنَح، لأننا لا نفقد عادةً إلا ما ننال!.
في مثل هذا اليوم من عام 2002م وقفت في باريس في محفل لجنة الصداقة الفرنسية مع البلدان الأجنبية لأستلم جائزة الصداقة الفرنسية العربية، كما أقف في محفلكم اليوم لاستلام جائزة الرواية العربية. فإذا كنت قد استسمحت اللجنة الفرنسية يومها للتبرّع بالقيمة المادية للجائزة الفرنسية لإنفاقها على دعم القضايا العربية، فإني استسمحكم اليوم التبرّع بالقيمة المادية للجائزة العربية لدعم أطفال الطوارق في كلّ من مالي والنيجر، لأنهم يمّثلون الجيل المحروم حتّى من الماء، فكيف بالغذاء أو الدواء أو التعليم؟ وأحسب أنه فعل لا يخلو من دلالة رمزية: ففي رحاب هذه الأرض النبيلة التي كانت كعبة أمّة الهجرة منذ ألوف الأعوام، وقف جدّ هؤلاء الأطفال المناضل محمد علي الأنصاري ليوجه نداءه الشهير لمحفل المنظمة الأممية عام 1960م، مستصرخًا الضمير العالمي لوضع حدّ لمأساة طوارق ما كان يُعرف آنذاك بـ"مملكة تينبكتو". وتشاء الأقدار أن تتواصل محنة طوارق مالي والنيجر منذ ذلك التاريخ إلى هذا اليوم، هذه الأرض التي أبت عبر التاريخ إلا أن تلقننا دروس السخاء عندما كانت تهب ما لاغنى لها عنه، ولكن للدلالة الوحيدة القادرة على إنقاذ ضمير المبدع، ككبش فداء، بتحويله رسول خلاص ينتصر لذوي القرب، ويبني بنزيف الروح صرحًا يجير المستضعفين، ويوحّد الثقافات.
في النهاية، لا أملك إلا أن أقدم امتناني العميق لرئيس وأعضاء اللجنة مقابل حُسن الظن، وكذلك لكل من كان لهم شرف ابتكار هذا التقليد النبيل.



[1] كلمة إبراهيم الكونى، الفائز في حفل تسلم جائزة الرواية العربية بالقاهرة 2010

هناك تعليق واحد:

  1. إبراهيم الكونى وولد ابنو دليلان على أن العروبة النبيلة تشرق من الغرب
    لا أتمنى لأى منهما أو لأى أديب عربى أو حتى مغتصب إسرائيلى نهاية كنهاية نجيب محفوظ .

    ردحذف

المجلس الأعلى للثقافة - في الأخبار